** سعيد خطيبي / أخيراً كتاب في مقام «ذاكرة الجسد». فقد جعلت أحلام مستغانمي من سيرة والدها شرفة تطل منها على تاريخ الجزائر، وأصدرت «أصبحت أنت» في كتابة سيرذاتية عارية، لا بطولة فيها سوى للجنون. لزمتها ثلاثة عقود قصد ترويض شوقها إلى والدها، وسرد ما حصل له منذ أن سُجن إلى جانب كاتب ياسين، عقب أحداث 8 مايو/أيار 1945، التي طالب فيها الجزائريون بالحق في الاستقلال، فقابلهم رصاص الاستعمار، إلى غاية رحيله عشية دخول البلاد عشرية رصاص عام 1992. بعدما قضى سنوات في مصحة أمراض عقلية أوصلته إليها محاولة اغتيال من طرف جزائري، وهو الذي نجا من الموت زمن الاستعمار، ففهم أن أخطر الأوقات هي أوقات النصر التي نفرز فيها بين الحقيقة والوهم، فعاش فيها شبه مسجون، من غير أن يتخلى عن عاداته في تدوين قصائد وملاحظات سياسية، وفي العودة إلى كتّابه المفضلين، على غرار هوغو ولامارتين. محمد الشريف مستغانمي الذي عاش بين سجنين ولم يتعلم سوى الفرنسية ـ على غرار أبناء جيله ـ فأراد أن تثأر له ابنته بالكتابة بالعربية، دون أن يعلم أنه سوف يصير هو نفسه نصها الأهم. في «أصبحت أنت» (الصادر عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل) تكتب مستغانمي ممسكة بمشرط، لا تُبالغ في فتح الجِراح، بل تكتفي بما تحتاج إليه القصة، فليس من السهل على إنسان أن يرى والده ينحدر إلى ظلمات الوحدة والانهيار العصبي، من غير أن ينفعل، مع ذلك فقد حافظت الكاتبة على نسق يُراوح بين الألم والضحك، لم تمنع نفسها الحق في السخرية من قدرها، دون انحياز إلى شعارات حرب التحرير وما تلاها من شعارات ثورة زراعية وأخرى ثقافية، بل أعادت مراجعتها، مفضلة في السياق ذاته استحضار أصدقائها وعلاقتها المضطربة مع جيرانها ممن تبقى من فرنسيين، من غير شماتة في خصومها، وهي التي طُردت من المدرسة الثانوية جراء توافد المعجبين بها ـ وهي في السابعة عشرة من عمرها ـ الذين عرفوها من برنامجها الإذاعي «همسات» لكنها حازت شهادة البكالوريا، ثم منعت من دخول مؤتمر اتحاد الكتاب، في زمن عرفت فيه البلاد «حالة تخدير ديكتاتوري» فصارت أشهر كتاب بلدها، مثلما حُرمت من مواصلة الدراسات العليا، بعدما تخرجت في أول دفعة أدب عربي، فهاجرت وأتمت دكتوراه في السوربون. ففي سيرة الوالد تتسرب ـ لا شعورياً ـ سيرة الكاتبة نفسها، التي على الرغم من علاقتها الوطيدة بأبيها عرفت علاقة صدامية بوالدتها، التي أردت أن تجعل منها «سيدة بيت» لكن أحلام مستغانمي كسبت معركتها العائلية في الأخير، بعدما راكمت خسارات لم تعوض عنها سوى الكتابة. بين ديغول والجيش السري تُحاور أحلام مستغانمي أربعة عقود من تاريخ الجزائر، مستعيدة حياة والدها المناضل القومي بين تونس والجزائر، متعقبة سفرياته في بلدان المعسكر الشرقي سابقاً، لكن مكانين اثنين يتكرران في هذه السيرة الروائية: حديقة ومصحة. للمصادفة أن هذين المكانين سيلعبان دورهما في تغيير مصير الجزائر، نقصد منهما: حديقة قصر الحكومة، حيث عمل والدها عقب الاستقلال، وقد أقام في عمارة مقابلة لها، ومصحة (مايو) في باب الوادي، حيث سينهي أيامه. على شرفة قصر الحكومة ألقى شارل ديغول خطابه الشهير وقال كلمته التاريخية: «لقد فهمتكم» معلناً العد التنازلي لاستقلال البلاد، وفي باب الوادي اندلعت حرب 1962 التي شنتها منظمة الجيش السري من أجل جزائر فرنسية ومنع الجزائريين من بلوغ الاستقلال. هذان المكانان المشبعان بالرمزية سيكونان عماد هذا النص، الأول شاهداً على حلم الاستقلال، والثاني شاهداً على الموت لكل من حلم بهزيمة الاستعمار. فمثلما قاست الكاتبة في الشفاء من حنينها إلى والدها، فهي لا تزال تُقاسي في الشفاء من ارتجاجات وطنها. إنها تُعيد تجميع (بازل) حرب التحرير، محاولة ألا تنسى أحداً، تستذكر من شاركوا فيها من أبناء بلدها، لكنها أيضاً تستحضر أولئك الأوروبيين الذين حملوا السلاح من أجل جزائر جزائرية، ثم محتهم الذاكرة، على غرار فرنان إيفتون أو هنري علاق، «مثلما كان بين الجزائريين خونة و»حركى» كان بين الفرنسيين شرفاء». وهي تسير في حديقة قصر الحكومة، وتنظر إلى الحمام يطير ويحط من حولها، مراقباً المارة مثلما كان البوليس السياسي يُراقب أنفاس الناس، كتبت: «تأملاتي الأولى عن الحرية تشكلت وأنا أتأمل الحمام». عندما وصل والد المؤلفة إلى المصحة العقلية وجد نفسه مضطراً لخوض معركته الأخيرة. ليست معركة بالسلاح، بل ضد التاريخ. فقد وجد نفسه بين يدي طبيب فرنسي، برتبة ضابط، تكفل بعلاجه. قدر محمد الشريف مستغانمي أن «التعري أمام العدو مذبحة» لم يُصارح طبيبه بعلة انهياره العصبي. بينما في المصحة تتذكر فضل والدها عليها أن كان سبباً في دخولها الأدب بعدما أتاح لها ـ عن غير قصد منه ـ مطالعة «زوربا اليوناني» فعلى الرغم من أن قراءتها في سن مبكرة حامت حول الرواية، فإنها كتبت شعراً. كانت حالمة إلى أن اختطفتها كتيبة مخابرات فجراً من البيت وقضت يوماً تحت رحمة المساءلات، لا لشيء سوى لأنها كذبت عن نفسها بأنها تعيش في بلد حريات. وحين أتمت مسودة «ذاكرة الجسد» توفي والدها، لذلك يبدو أن «أصبحت أنت» هو القطعة الضائعة من روايتها الأولى ـ التي دفعتها إلى مقدمة المشهد العربي ـ مع أنها في «أصبحت أنت» لن يجد القارئ قصصاً عاطفية متخيلة كما في السابق، بل إن الكاتبة نفسها ووالدها يصيران قصتان من قصص العشق. والدها في علاقته السرية مع فتاة يوغسلافية تدعى نتاليا، لا تتحرج المؤلفة من كشف رسالتها له، بينما أحلام مستغانمي تفشي علاقاتها المراهقة الأولى، وتقلبات مزاجها العاطفي في صورة مطابقة للمراهقة السياسية التي عرفتها الجزائر، حين الاستقلال، وعدم استقرارها على حب واحد، فقد كان العرب ـ حينذاك ـ أيضاً مولعون بالجزائريات، يرون فيهن صورة جميلة بوحيرد، صورة المرأة الجميلة والثائرة. جميلة بوحيرد التي حاربت من أجل تحرير الجزائر، «أكانت تتوقع أن إصلاح المصعد هو المعركة الأكبر» كي تصل بمشقة إلى بيتها، كل يوم، في الطابق الحادي عشر من عمارة متهالكة! ما تبقى من طهارة حرب التحرير عندما وصل والد المؤلفة إلى المصحة العقلية وجد نفسه مضطراً لخوض معركته الأخيرة. ليست معركة بالسلاح، بل ضد التاريخ. فقد وجد نفسه بين يدي طبيب فرنسي، برتبة ضابط، تكفل بعلاجه. قدر محمد الشريف مستغانمي أن «التعري أمام العدو مذبحة» لم يُصارح طبيبه بعلة انهياره العصبي. كيف يخبر فرنسياً من بلد استعمر الجزائر 132 سنة، أن جزائريا آخر، ود كتم أنفاسه عقب الاستقلال؟ كيف يسمح لنفسه بإهانة التاريخ والإفصاح عن أن الجزائريين باتوا يتقاتلون في ما بينهم عقب خروج المحتل؟ إلى آخر رمق كتم والدها سره وراوغ أسئلة الطبيب، حفاظاً على ما تبقى من طهارة حرب التحرير. خيّر نفسه بين فضح سبب حالته والمساعدة على العلاج أو إخفائه كي لا يشوه صورة مواطن له. خدع الطبيب الذي نصحه بالكتابة، فأصفح عن دفتر علني يدون فيه قصائد وأفكار عابرة، كي لا يثير الشكوك، بينما الدفتر الآخر الذي دون فيه آراءه السياسية ظل مخفياً إلى غاية رحيله. لم يشأ أن يكشف عن خيباته ما بعد الاستقلال، عن اهتراء أحلامه مثلما اهترأت العمارة التي لم يغادرها منذ 1962. تعطل مصعدها في صورة رمزية عن تعطل مصعد نمو البلد. ففي هذا الكتاب لم تلبس الكاتبة ثوب الحياء، بل غامرت صوب الفضح، ولم تستثن والدها، فكتبت نيابة عنه رسائل حميمة إلى حبيبته السرية. فوالدها كان على النقيض من أمها، قارئ ورجل دولة «تعلم من الأدب الفرنسي الكياسة، ومن جرائم الاستعمار الشراسة» بينما والدتها سيدة بيت، انشغلت بماكنة خياطة في زمن أوقفت فيه الحكومة معاش الوالد انتقاماً منه عن مواقفه، ورهنت حليها في بنك من أجل توفير مصروف البيت، فتلك الأم القادمة من تنشئة محافظة، لم تكن تود سوى أن تصنع من أكبر أبنائها (أحلام) امرأة ماكثة في البيت، تثبط كل رغبة لها في التحرر بكلمة: «عيب». لكن المعنية لم ترد أن تنشغل يداها سوى بالكتابة، ففي «أصبحت أنت» تكتب عن لحظات ضعفها أكثر مما تكتب عن لحظات زهوها. لم تلزم أحلام مستغانمي ـ فقط ـ ثلاثة عقود كي ترتب أوراقها وتكتب هذه السيرة، في تداعٍ حر للذكريات، حيث يتقاطع التاريخ الفردي بالتاريخ الجمعي، بل لزمتها أيضاً جرعة من الجنون كي تتخلص من ثقلها وتضعها بين يدي القارئ. «نحتاج أن نفقد صوابنا أحياناً، كي نثبت للآخرين أننا على صواب» كما كتبت، فقد شغلت ـ طويلاً ـ دكة الشاهد عما يدور من حولها، قبل أن تفرج عن هذا الكتاب الذي هرّبت فيه ممنوعات التاريخ في بلدها، مثل «حاملي الحقائب» الذين كانوا يهربون السلاح في حرب التحرير. / روائي جزائري