يوم 29 ماي 1958 أعلنت "المجاهد" استشهاد عبان رمضان في ساحة الشرف.
ثلاثة تعليقات وصلتني من قرائي حين إعلاني عن موضوع عبان رمضان:
-لحظة التأسيس للحكم بالكذب .
-القتل العمدي في ساحة المعركة الوهمية
-بذور الانحراف عادة ما تبذر أولا
وبالفعل، كل الثورات تأكل، مثل الذئبة، تأكل أبناءها. الثورة الفرنسية قادت سنة 1794 مُلهمها روبسبيير إلى المقصلة، بعد أن انقلبت عليه آلية الرعب، التي وظفها ضد أعدائه. الثورة الروسية خانت منظرها ليون تروتسكي، وجعلته يهيم على وجهه من بلد إلى بلد، قبل أن يغتاله جواسيس ستالين سنة 1940 في المكسيك، ويضعوا بذلك حدا "لثورته المستمرة". الثورة الكوبية خيّبت ظن تشي غيفارا، ودفعته سنة 1967 نحو قدره المحتوم ليوقّع بموته في أدغال بوليفيا فشل نظريته حول "البؤر الثورية".
هذا هو حال كل الثورات في كل الأمكنة، وفي كل الأزمنة، تخضع لسيناريو يتكرر دائما، وبنفس الطريقة تقريبا، وينتج باستمرار نفس التراجيديا المرعبة. فالثورات، كما يقول موريس شابلان، "يحلم بها الأنبياء، ويقوم بها القديسون، ويخربها المحتالون، ويحولونها في نهاية الامر إلى قبض ريح ودماء وعصابات أشرار".
والثورة الجزائرية، هي الأخرى، ليست استثناء عن هذه القاعدة، لها أنبياؤها وقديسوها ومخربوها. فقد حلمت بها أجيال كاملة، وفجّرها مجاهدون ضحوا بالنفس والنفيس في سبيل الاستقلال. واليوم يعمل على تخريبها محتالون وعصابات أشرار من أشباه المجاهدين والمجاهدين المزورين. والثورة الجزائرية، أيضا، ككل ثورات العالم بقدر ما كانت مفعمة بالآمال والمآثر، بقدر ما حصدت في طريقها الكثير من الأبرياء، وأكلت الكثير من قديسيها. بعضهم اغتاله رفقاء السلاح، والبعض الآخر دفع إلى الانتحار، وآخرون اغتالهم النسيان. عبان رمضان، العقيد العموري، العقيد عواشرية، عباس لغرور، شيهاني بشير أثناء الثورة. محمد خميستي، محمد خيضر، العقيد شعباني، محمد بوضياف بعد الاستقلال. أسماء ضمن آلاف الأسماء التي قتلت باسم الوفاء للمبادئ الثورية، وبتهمة الانحراف، وشُوّه مسارها التاريخي، ثم بعد سنوات رُدّ لها الاعتبار، كما حدث سنة 1984 حين أعلنت جبهة التحرير الوطني ردّ الاعتبار لذاكرة 21 مناضلا مسؤولا، وقررت إعادة دفنهم في مربع الشهداء بمقبرة العالية، أو مثلما فعل الشاذلي مع فرحات عباس وبن خدة وبوتفليقة مع مصالي الحاج.لكن رد الاعتبار هذا لم يتم من أجل نفض الغبار عن الذاكرة الوطنية، وتخليص التاريخ مما شابه من تحريف وتشويه، إنما خدمة لمصالح سياسية آنية. فالتاريخ عندنا يخضع دائما للسياسة. واليوم، ووسط ما يثار حول ملف المجاهدين المزورين حريّ بنا أن نتذكر، بلا انفعال ولا تشنج، اسم عبان رمضان، الذي يثير جدلا عنيفا ما أن يهدأ إلا ليندلع من جديد بعنف أكبر.
اسم عبان رمضان يعود إلى الواجهة كل عام بمناسبة 20 أوت 1955 وذكرى مؤتمر الصومام. يعود ليس لتذكر لحظات حاسمة من التاريخ الوطني، وليس لاستخلاص العبر من مسار شخصية رائعة نبيلة، طبعت بشجاعتها وعزة نفسها مختلف المراحل الأساسية في كفاح الشعب الجزائري، وإنما يعود ليُقزّم ويصادر ويوظف لأغراض سياسية دنيئة في صراع يشبه لعبة القط والفأر بين سلطة فقدت أي مبرر للبقاء و"عروش ايديولوجية" ركبت رأسها ورفعت شعار "تغانانت تخاسرات". والحقيقة، أن هذا التوظيف السياسي يذكرنا بالمعركة التي أثيرت حول عبان قبل سنوات بين عائلة عبان وعلي كافي، وبين هذا الأخير والجنرال خالد نزار وتدنى فيها النقاش بين عضوين في المجلس الأعلى للدولة إلى مستوى من منهما يشرب البيرة ومن منهما يشرب الويسكي.
ربما كان عبان رمضان أكبر من الثورة، وربما أن الثورة كانت اكبر منه، لكن الأكيد انه بفكره الثاقب والتزامه النزيه وإخلاصه الناصع يسمو فوق التحزب الضيق والصراعات العقيمة والحسابات المصلحية والعروشية المقيتة، لكن يبدو أن قدر عبان رمضان هو مثل قدر كل الثوار العظماء في التاريخ يُبعث كل مرة ليغتال من جديد. وبالفعل، فعبان رمضان، الذي يُشبّه بسان جيست Saint JUST الثورة الجزائرية اغتيل ثلاث مرات.
اغتيل أولا حين كذب رفقاء دربه على الشعب وحمّلوا الجيش الفرنسي مسؤولية مقتله، ونشرت جريدة "المجاهد" يوم 29 ماي صورته تحت عنوان بالبنط العريض"عبان يستشهد في ساحة الشرف"، ونعته جبهة التحرير الوطني بقولها إنها خسرت أحد أكبر منظميها وإن الجزائر خسرت واحدا من أعظم أبنائها.
واغتيل للمرة الثانية حين انجلت الحقيقة تدريجيا، وهي أن عبان رمضان ذهب ضحية ذكاءه ونزاهته وبعد نظره، وذهب أيضا ضحية تسلطه وعنفه اللفظي. فالعقداء الخمسة لم يغفروا له، وللعربي بن مهيدي، أساليبه "المتطرفة" خلال معركة الجزائر، ولم يغفروا له مسعاه الإيديولوجي الذي تجسد في مؤتمر الصومام، والذي طرح أولوية السياسي على العسكري وأولوية الداخل على الخارج.
ويغتال للمرة الثالثة حين تتمّ كل سنة معارضته بالشهيد زيغوت يوسف، وحين يسعى البعض إلى إلغاء 20 أوت 1955 باسم 20 أوت 1956، وحين يسعى بعض السياسيين الفاشلين إلى محاولة مصادرة أرضية الصومام وجعلها مرجعية سياسية لحزب ما أو منطقة ما أو عرش ما.
إن أعظم ما قاله عبان رمضان مخاطبا العقداء الخمس:"إنكم تحاولون خلق قوة بالاعتماد على الجيش، إن الجبل شيء والسياسة شيء آخر، السياسة لا يمارسها الجهلة والأميون".