• توفيق رباحي / القدس العربي / العالم كله اليوم عارٍ أمام ما يجري في غزة. لا يقف عاريا لأنه عاجز، وإنما لأنه متخاذل ومتآمر، فقط لأن جهة تُسمى إسرائيل هي التي تقتل والضحية اسمها فلسطين. تخيّلوا لحظة العكس، وقد رأينا شيئا منه يوم السبت 7 تشرين الأول (أكتوبر) عندما كان الطرف الذي يقتل اسمه حماس. ليس هناك عار وعُري أكبر من عار وعُري تخلي هذا العالم عن إنسانيته. هل يُعقل أن يكتفي العالم بترجي إسرائيل ودعوتها للتعقل وهي تهدد بإبادة أكثر من مليون مدني إذا لم ينزحوا من منطقة حرب إلى منطقة حرب أخرى (من الموت إلى الموت) في غضون 24 ساعة؟ ليست إسرائيل وحدها تخوض الحرب على الفلسطينيين. ولا لوم عليها. العالم كله، بمخابراته وسياسييه واقتصادييه وإعلامييه وأكاديمييه وجامعاته يخوض إرهابا كونيا وإبادة تامة بحق مَن يدين حرب إسرائيل أو يعتبر أن الفلسطينيين مظلومون. حالة الاستنفار التي تعيشها دوائر السياسة والحكم والأمن وغرف أخبار التلفزيونات والمؤسسات الإعلامية غير مسبوقة. السباق نحو دعم إسرائيل في ارتكاب جرائم الحرب والمزاودة في ذلك غير مسبوقين. أصبح الأمر عبارة عن إرهاب سياسي وفكري وإعلامي وأمني يطال كل مَن يختلف أو يقف على الحياد. إلى الجحيم شعارات الديمقراطية والإنسانية والعدل والقانون والأمم المتحدة، فقط لأن القاتل إسرائيل. كلهم عراة اليوم. الإسرائيليون عرّاهم السبت 7 تشرين الأول (أكتوبر) بأن أسقط أكذوبة القوة الاستخباراتية العظمى والجيش الذي لا يُقهر. الفلسطينيون عراة لأنهم عزّل بلا حماية ولا دعم إنساني فاعل. العرب عراة مثل غيرهم وربما أكثر. الشعوب بعجزها عن تحويل شحنات غضبها إلى أفعال وتصرفات مؤثرة على الأرض. والقادة بتخاذل بعضهم ودس بعضهم الآخر رؤوسهم في الرمال وخيانة البعض الثالث. الإعلام العربي عارٍ مثل المجتمعات العربية والسياسيين العرب. فكيف لا يكون عاريا وهو نطفة بذيئة منهم. السياسيون الغربيون عراة… بنذالتهم وجبنهم وخيانتهم لقيمهم الإنسانية إلا من بعض الأصوات هنا وهناك سرعان ما يأتي من يسحقها أو يخنقها أو يخوّنها. وسط كل هذه المخاضات التي مر بها الصراع وعاشتها أجيال من سكان المنطقة، استمر الموقف العربي الشعبي على ثباته في التعاطف مع الفلسطينيين ودعمه لهم اتضح أن جبنهم لا حدود له. واتضح أنهم يزايدون على بعضهم في الكذب ومناطحة الحقائق وتبني الرواية الإسرائيلية بطريقة عمياء. الإعلام الغربي عار بتخليه عن مبادئه الأخلاقية وقيمه المهنية لحظة ما تعلق الأمر بإسرائيل والفلسطينيين. يكفي الاطلاع على ما يُنشر ويُبث في الإعلام الغربي ليقف المرء على كمٍّ هائل من التلفيق والتضليل، وعلى حقيقة أن المهنية والحقيقة وحق الجمهور في الاطلاع إلى جهنم فقط لأن الذي يقتل اسمه إسرائيل. الأوساط الأكاديمية والعلمية في أوروبا وأمريكا عارية بعد أن تكشّف نفاقها وازدواجية معاييرها. فهي موضوعية محايدة.. إلخ، فقط عندما لا يتعلق الأمر بإسرائيل. لحسن الحظ أن الرأي العام الغربي ذكي ومستيقظ وأكثر ذكاء وصدقا من الحكومات والمؤسسات. أنا من الذين يؤمنون بأن الحديث عن العمل العربي المشترك وجبهة دفاع واحدة والمصير المشترك مجرد لغو. كان ذلك ممكنا قبل 50 سنة وأكثر. اليوم أصبح مجرد التفكير في مثل هذا الكلام مدعاة للسخرية. ليس بسبب تفكك الصف العربي فقط، وليس بسبب الخيانات التي كانت موجودة منذ لحظة تأسيس إسرائيل وتضاعفت، لكن أيضا بسبب اختلاف الطرف المقاتل بين العرب. قديما كانت جيوشا مهترئة صدئة مثل قادتها. أما اليوم فقوى موازية غير منضوية في التنظيم المؤسساتي والنظامي هي التي تقاتل، كما هو حال حماس والجهاد وحزب الله. برزت هذه القوى بعد أن استسلمت الدول والجيوش النظامية وتوقفت في منتصف الطريق. عجيب كيف تغيّر الموقف العربي من النقيض إلى النقيض على مراحل: في العقود الأولى لنشأة إسرائيل كان هناك قتال وحروب. المرحلة الثانية برزت بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 وميّزها الرفض والصمود والإصرار على استرجاع الحقوق إلى أن حلّت حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 لتكون العنوان الأبرز. هذه الحرب قادت إلى المرحلة التالية المتمثلة في القناعة بإمكانية استرجاع الأرض والحقوق بالمفاوضات. كانت بداية هذه المرحلة في 1979 مع زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس، ونهايتها اتفاقات أوسلو في 1993. بين البداية والنهاية جرت مفاوضات كثيرة وبيع وشراء من تحت الطاولة بين قادة عرب وإسرائيل. بعد اتفاق أوسلو بدأت مرحلة أخرى لم تستمر طويلا لتليها أخرى أدخلت المنطقة كلها في نفق مظلم لا يزال مستمرا. وسط كل هذه المخاضات التي مر بها الصراع وعاشتها أجيال من سكان المنطقة، استمر الموقف العربي الشعبي على ثباته في التعاطف مع الفلسطينيين ودعمه لهم. أما الموقف الرسمي فكان عجيبا لافتا بتقلباته لكن غير مفاجئ. الموقف الرسمي العربي الآن في مرحلة إدانة الفلسطينيين وتحميلهم المسؤولية، تصريحا وتلميحا، عن كل ما يحدث حتى قبل أن يحدث. الموقف الرسمي العربي اليوم في طور تحويل إسرائيل إلى ضحية والفلسطينيين إلى جناة. وهذا المستوى يتطلب التعاطف مع إسرائيل ومنحها الدعم المعنوي والسياسي والإنساني. هذا ليس أسوأ الممكن. أخشى أن هناك تطورا آخر سيبرز في الحرب المقبلة التي ستشنها إسرائيل على غزة أو الضفة الغربية (مخطئ من يصدّق أن الحرب الحالية هي النهاية). أرجّح أننا في هذه الحرب المقبلة سنشاهد حكومات عربية تشارك مع إسرائيل في القتال من خلال مدّها بالسلاح والمعلومات الأمنية والاستخباراتية وربما الجنود. السخاء العربي فريد من نوعه وسجّلته قصص خالدة وأساطير. ربما يحدث هذا الآن، لكنه ليس مرئيا ويحتاج أصحابه إلى جرأة أكبر لإعلانه للعالم. هذه الجرأة ستتراكم في المستقبل القريب لتعبّر عن نفسها في الحرب المقبلة التي هي مسألة «متى» وليس «هل».