بقلم: عبد العزيز بوباكير
ملاحظة: في النص لعب على الكلمات
ثنائي مرح اسمه بوليفة جوادي
عشت أنا والسعيد بوط(ت)اجين أياما من بوهيميتنا وتشرّدنا في بيت المرحوم محمد بوليفة قبل زواجه. وكان يلتحق بنا الشاعر سليمان جوادي، حين تسمح له بذلك ظروف عمله في مديرية الثقافة بالجلفة. وكان البيت يصدح، رغم ضيقه، بنغمات عود بوليفة وأغانيه ونرفزته، أيضا. وكنّا في جمال النغم والنكت اللاذعة والضحك المباح لا نشعر بمرور الوقت حتى يصيح الديك الأول. كانت تلّفنا الصداقة بدفئها والألفة بحرارتها والمشاعر بصفائها. نأكل ببذخ أحيانا، ونجوع، كالذئاب، في غالب الأحيان. لكننا كنا ننسى ذلك في رنّة جرس شعر سليمان، وحلاوة إيقاع بوليفة، وبوح السعيد بإحساساته، وطبعي الكتوم أنا. وكان ينضّم إلينا أحيانا الأمينان، محمد الصغير وأحمد، وبوزيد حرز الله وفني عاشور...
الثنائي الرهيب، سليمان جوادي بضحكه الدائم ومحمد بوليفة بغضبه الدائم. ثنائي لم أر في حياتي مثله، ليس كمثل الشاعرين رامبو وفيرلين، وليس كمثل الطاهرين وطار وبن عيشة، وليس كمثل النجمين ستارسكي وهتش، والمفتش الطاهر ولابراتي في السينما. شئ آخر مختلف، متفرّد، لا يتكرر، لا كفء له. ثنائي سابق على التاريخ. تنظر أحيانا إليهما فتخالهما على وشك عراك، وتراهما أحيانا يضماني بعضهما بعضا فتظنهما توأمين. ذات يوم طال غياب سليمان، واشتاق إليه بوليفة. ثم جاء سليمان وصدح الشعر والنغم من جديد. لكن سليمان قرّر السفر إلى الجلفة في يوم الغد، حاول بوليفة إقناعه بالعدول عن نيّته، لكنه فشل. ليلا قام بوليفة بإخفاء ملابس سليمان، وفي الصباح بحث سليمان عنها، فلم يجدها. ولما سأل بوليفة أجابه هذا الأخير:" اذهب إلى زوجتك، فطّوم، كما خلقك ربُّك".
كلاهما من ولاية واحدة (الوادي)، وكلاهما درس الفنون ببرج الكيفان، وكلاهما هام وجدا بالعاصمة، رغم عشقهما للصحراء، وكلاهما معروف محليا وعربيا، وكلاهما مزلوط في آخر الشهر. سليمان شاعر مخضرم، يكتب بالفصحى والدارجة، لا هو من المتمسكين بتلابيب القديم، ولا هو مع حماسة الجيل الجديد المحطم للأصنام، بين... بين.
تمحّن سليمان في الصحافة بمتاعبها منذ منتصف السبعينيات حين كانBeau Gosse ، فكتب في مجلتي "ألوان" الساخرة و"الوحدة" الملتزمة وجريدة "الشعب" الصارمة. لكنه كرّس جهده للتأليف للعديد من المطربين، منهم طبعا بوليفة ومصطفى زميرلي وصليحة الصغيرة وزكية محمد والشاب خالد (مسك الختام!؟). وتسكع سيء الحظ سليمان في دواوين شعره بقصائد للحزن وأخرى للحزن، وأغاني ربيع غير هادئ، وعشق آخر لا يأتي لا قبلها ولا بعدها، ورصاصات لم يطلقها لا سليمان ولا حمّة لخضر، وقال سليمان الذي لم يقل شيئا، ونشر مجموعته غير الكاملة، التي لن تكتمل بحول الله.
قال لي في دمشق حين ذكرته بمسامراتنا في الأيام الخوالي إنه ودّع الجاهلية الأولى! صحيح أن سليمان ودّع كل شيء إلا ضحكه المدوّي حينا، والمكبوت حينا آخر وخفّة روحه ونكاته الفريدة. واليوم، كلّما فتحت الفيسبوك يواجهني بالدعاء لي بتوبة نصوح.
أما بوليفة، فقد انتقل من حفظ القرآن وإمامة الناس في التراويح إلى العزف على العود، الذي تعلّم أصوله ببغداد، وغنّى كغيره أغان ملتزمة زمن الثورات الثلاث. لحّن لنفسه أولا (المؤمن يبدأ بنفسه) وبين الزرقاطي وقمر الليل وما قيمة الدنيا مسافة بدأت بميل. لم تسلم من أنامله، وهي تعزف على العود، لا قصائد مفدي زكريا وإلياذته، لا هربت منه حيزية، ولم ينم أياما، حين غنّت له وردة "بلادي أحبك".
قبل موته، رحمه الله، في 6 أكتوبر 2012، كنّا نلتقي، وطلب مني الإشراف على مذكرة تخرج ابنته "نغم"، التي كان يعتبرها نغما من نغمات عوده، سررت بذلك لأني عرفت "نغم" منذ كانت تحبو. لم يكن يشتكي من مرضه العضال، وظل يمزح، كما في السابق، ما عدا مسحة حزن في عينيه. لم أحضر جنازته، لأني في داخلي لم أصدق أنه رحل، ورحله معه عوده، ولم أقبل أن يُردم في حفرة.
كان السعيد ينظر إلى الثنائي المرح الرهيب بإعجاب، مندهشا كالطفل، وكنت أنا، كما كنت، كتوما منزويا.
السكينة لك يا محمد
وطول العمر، يا طويل العمر، سليمان