فزع العالم عندما رأى صور الأطفال الهزالى والعائلات الباحثة عن لقمة العيش خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، وتصدر هذا الأمر واجهة المشهد الإنساني وأصبح حديث العالم كله. وبعد سريان اتفاق وقف الحرب، تتكشف سياسة صهيونية ممنهجة يطلق عليها مراقبون “تدوير المجاعة”، فبدلاً من السماح بتدفّقٍ كافٍ ومستمرّ للمساعدات والبضائع التجارية والمواد الغذائية، يعيد الاحتلال إنتاج الأزمة عبر جرعات محدودة من الغذاء والماء والدواء، تُبقي السكان على حافة البقاء دون أن تمكّنهم من الحياة الكريمة. تستند هذه السياسة، وفق منظمات حقوقية دولية، إلى استراتيجية ضغط مركّبة تهدف إلى إخضاع المجتمع الغزّي جماعياً تحت ذريعة “الاعتبارات الأمنية”، فيما يرى محلّلون أنها أداة حرب غير مباشرة تستخدم التجويع كسلاح سياسي واقتصادي. ويشير مصطلح “تدوير المجاعة” إلى سياسة متعمّدة تقوم على إبقاء السكان في حالة جوعٍ مزمن دون السماح بانهيارٍ شامل، عبر تنظيم دخول المساعدات الإنسانية بكميات محدودة ومتقطّعة، ولا تشمل على كثير من العناصر الغذائية المهمة كاللحوم الحمراء والبيضاء والبيض والألبان والأجبان. وبين تصريحات رسمية تتحدّث عن “السماح بدخول المساعدات”، وواقعٍ ميدانيٍ يشهد انقطاعاً متكرراً للإمدادات وتقييداً صارماً للمنافذ والمعابر، يعيش أكثر من مليوني إنسان داخل شريطٍ ساحلي محاصر منذ ما يزيد على 18 عاماً في دوّامة متكررة من الحرمان والموت البطيء، وفق تقارير أممية موثقة. قيود وترسيخ للمجاعة مدير الغرفة التجارية في غزة، ماهر الطباع، بين أن الكميات التي تدخل إلى قطاع غزة عبر المعابر لا تكفي سوى لتغطية نحو 50% من احتياجات السكان الأساسية، في ظل استمرار القيود الصهيونية على حركة البضائع وغياب انتظام تدفق المواد الغذائية. وقال الطباع في حديث خاص مع “المركز الفلسطيني للإعلام”، إن ما يجري حالياً لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحقق الأمن الغذائي، موضحاً أن غزة تعيش أزمة مركّبة بين محدودية الكميات المسموح بدخولها وانعدام التنوع في المواد المتاحة في الأسواق. ويؤكد “الطباع” أن التنوع الغذائي المتاح لا يتجاوز 30% مما كان يدخل إلى قطاع غزة قبل الحرب، حيث تقتصر الواردات على أصناف محدودة من الحبوب والمعلبات وبعض الخضروات، فيما تغيب بشكل شبه تام المواد الأساسية التي تمثل عصب النظام الغذائي المتوازن. وبيّن الطباع أن الأصناف التي تعاني من انقطاع حاد تشمل البروتينات الحيوانية ومشتقات الحليب، إذ يندر وجود الحليب الطازج والأجبان واللحوم البيضاء والحمراء والأسماك في الأسواق، وقال: “هذه السلع لم تعد متاحة وإن وجدت فإنها تكون بأسعار تفوق قدرة المواطن العادي”. ويرى أن انعدام المواد الغذائية الأساسية ينعكس مباشرة على الحالة الصحية للسكان، خصوصاً الأطفال والمرضى وكبار السن، مشيراً إلى أن نقص البروتينات والألبان قد يؤدي إلى انتشار أمراض سوء التغذية وارتفاع معدلات الضعف المناعي بين الفئات الهشة.وأكد أن الوضع القائم في حال استمراره، فإنه يهدد بتدهور إضافي في الواقع المعيشي للسكان ويجعل الأمن الغذائي في أدنى مستوياته منذ سنوات طويلة. وأوضح أن القطاع يفتقر إلى بيئة منظومة غذائية كاملة، فالمعامل والمخازن وشبكات النقل والتبريد تضررت بشدة، ما أدى إلى تعطّل سلاسل التوريد الداخلية وعدم قدرة الأسواق على الحفاظ على المواد القابلة للتلف. وأكد أن “الاقتصاد المحلي فقد قدرته على الإنتاج الذاتي، وأصبح رهينة لما يسمح الاحتلال بدخوله فقط، مشدداً أن تحقيق الأمن الغذائي في غزة لن يتم عبر إدخال شاحنات محدودة، بل من خلال إعادة تشغيل الاقتصاد المحلي واستعادة بيئة الإنتاج والتوريد والتخزين بشكل متكامل، وهو ما ترفضه سلطات الاحتلال حتى الآن، وفق قوله. وطالب “الطباع” بضرورة تسهيل دخول المواد الغذائية الأساسية والمتنوعة بشكل عاجل، وعودة الحركة التجارية إلى وتيرتها السابقة، مؤكداً أن استمرار هذا الوضع يعني “تجويعاً ممنهجاً لمليوني إنسان يعيشون في ظروف قاسية”. هندسة المجاعة بشكل جديد ويتفق الصحفي الاقتصادي محمد أبو جياب مع ضيفنا “الطباع”، في أن الاحتلال يسعى إلى تعزيز السيطرة والرؤية الصهيونية فيما يتعلق بإدخال البضائع إلى قطاع غزة. وقال “أبو جياب، في حديث خاص مع “المركز الفلسطيني للإعلام”، إن منتجات كمالية وغير ضرورية هي التي تتصدر الأسواق والعمليات التجارية، بينما لا يزال الاحتلال يقيد ويمنع دخول العناصر الغذائية المهمة، كاللحوم الطازجة والمجمدة وبيض المائدة واللحوم البيضاء وكثير من المشتقات الغذائية الأساسية. وأشار إلى أنه في حال السماح بإدخال بعض هذه الأنواع فإن ذلك يتطلب دفع مبالغ طائلة كـ”تنسيقات خاصة” للجيش الإسرائيلي. وبين أن ذلك يأتي في سياق “هندسة المجاعة” بشكل جديد ضمن تدفقات سلعية غير مهمة وغير أساسية على حساب منع السلع والمواد الأساسية والمهمة لبناء المكون الغذائي للعائلة الفلسطينية. وبين أن عمليات إدخال البضائع غير منتظمة وقائمة على اختيار الأجهزة الأمنية الصهيونية للأنواع، واختيارها لبعض التجار ومنحهم التنسيقات ومنع آخرين، ما يبرز مشكلة عدم الاتزان في الأسواق وتذبذب الأسعار، وحضور وغياب السلع بشكل متكرر. ودعا الأجهزة الحكومية في قطاع غزة، إلى مزيد من الضبط والحزم لمواجهة احتكار بعض التجار ورفعهم للأسعار، مؤكداً على أهمية وضرورة تضافر الجهود مع الأجهزة الحكومية في الضفة الغربية أيضاً من خلال المتابعة والتقييد. تجويع وابتزاز سياسي مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، قال إن الاحتلال يكرّس سياسة التجويع، في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون إلى أبسط مقومات الحياة والكرامة الإنسانية. وقال “الثوابتة”، في حديث خاص مع “المركز الفلسطيني للإعلام”، إن المساعدات الإنسانية لم تشهد أي اختراق حقيقي، موضحاً أن ما يدخل هو مجرد فتات يُستخدم لتدوير الأزمة والمجاعة لا حلها، مؤكداً أن استمرار هذه السياسة يعني إبقاء السكان في حالة فقر وتجويع دائمين. وبين أن سلطات الاحتلال لم تلتزم بتنفيذ البنود الإنسانية من الاتفاقات المعلنة بشأن إدخال المساعدات إلى القطاع، مشيراً إلى أن ما يدخل فعلياً لا يلبّي الحد الأدنى من احتياجات السكان. وأوضح أن الاحتلال يسمح بدخول نحو 200 شاحنة فقط يومياً، في حين كان من المفترض أن يقترب العدد من 500 شاحنة يومياً وفق ما تم الاتفاق عليه، مشدداً أن هذه السياسة تمثل تقييداً متعمداً لحركة الإمداد الإنساني ووسيلة ضغط جماعي على السكان المدنيين. وأكد أن الوضع في غزة ما زال كارثياً، وأن القطاع “يفتقر إلى كل المقومات الأساسية التي تمكن السكان من استعادة واقعهم المعيشي، مشيراً إلى أن الأسواق المحلية شبه فارغة وأن دورة النشاط الاقتصادي متوقفة كلياً بفعل الحصار وتدمير البنى التحتية. ويرى “الثوابتة” أن الاحتلال يستخدم المساعدات الإنسانية كأداة ابتزاز سياسي، مؤكداً أن تأخير دخول الشاحنات وتقييد المعابر يهدف إلى إبقاء غزة رهينة الحاجة وتحويل الأزمة الإنسانية إلى وسيلة ضغط على المقاومة والشعب الفلسطيني. ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل للضغط على الاحتلال لتنفيذ التزاماته، وضمان دخول كميات كافية من الغذاء والدواء وأدوات الإيواء، محذراً من أن أي تأخير إضافي سيؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية في القطاع. وفي نهاية المطاف، تكشف سياسة “تدوير المجاعة” في غزة عن أحد أكثر أوجه حرب الإبادة إجراماً، فالتحكم الصهيوني في السعرات الحرارية التي يتحصل عليها كل شخص في قطاع غزة، وإدارة الجوع كوسيلة للضغط والابتزاز، تعد أحد أسوء أشكال الحرب التي لا تزال مستعرة رغم وقف الحرب بشكلها الكلاسيكي المعروف. لقد اختزل الاحتلال حق أكثر من مليوني إنسان في لقمة طعام أو شاحنة تنتظر السماح لها بالعبور نحو القطاع المدمر، ومع استمرار هذه السياسة، لا يبدو أنّ المجاعة تتجه نحو خط النهاية، بل يستبقيها الاحتلال كحالة دائمة.