بقلم : أزراج عمر
إلى صديقي في برج بوعريريج ، رفيق طيبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل سنكتب الشعر ونحن أسرى البيوت؟ وهل نقدر أن نرى العالم من خلال ذواتنا المغلقة؟ وهل بمقدور " كورونا " أن تقفل حدوسنا ؟ عندما كنت في التاسعة من عمري فاجاتني أمي بقولها بأن بيتنا هو سياج أرواحنا. من ذلك اليوم صرت أتخيل نفسي أودع الحياة كلما غلَقت شقوق بيتي أو اعتقل فيه النوم جسدي. نحن لاجئون في العراء منذ خروجنا من أرحام أمهاتنا وبدء من ذلك تبدأ هجرتنا ثم ننحني لننقش سفر خروجنا الأبدي مرَة على طيف الوهم وطورا على صفيحة الذاكرة.
في ليالي هذا الأسر كتبت على جدار الصمت :
1- كان لي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان لي ظل عنيد يرتديني ثم نمضي
نتبع الغيم البطيء نحو مثواه الأخير
كان لي صوت ينام فوق أقراط الغدير
كان لي وجه البساتين وأطفال الخرير
حينما غادرني الحلم أفقت وتراءت سفني غارقة َ في رماد الزمان الضرير.
•
2- أنا مثلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل يوم أجمع أصداء الغرباء قرب ساحة المحارب، أسند عشَا إلى أعمدة الذكرى ثم أهذي : سأغني للنساء العائدات من النوم ، وأرخي للقرى ظلي ، فأنا مثلك قد كانت حياتي وطنا بلا شعب، وغيما في الجبَ.
أنا مثلك بالأمس جرَتني الرياح من شهيقي .
هل لي بلاد قدَام القضاة العراة ؟
هل أرى رأسي على حبل الظلام؟
ولماذا جرَدتني طرق من خطاي ؟
ولماذا في الفجر أقرع طبل الغمام؟
•
3- النهر المنثور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قدَام تثاؤب النهر حذَرك الموتى من نوم الماء و نسيان الصفصاف.
قرب غريب جرَه النهر جاء صغار إلى دائرة الصلصال وانهالوا على سراب العقل.
كلما ابتعدت عنك نجمة رخوة تسلَحتك بالجرَة وبخار الناي.
بالعشب قمَطت الريح ثم غنَيت للعشب.
قدَام النهر روَضت خيل الزمان
ثم أسرعت خطاك نحو أقاصي ذاتك الأخرى.
4- الدرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان لي بستان غزته الأسوار
حاولت دهورا أن أحفر ثغرا تزهر فيه الاشعار
حين صرت قريبا من قبَة الاسرار
جاءتني رماح الغدر فذرَتني غبارا على جثث الأشجار.
II.
في زاوية معتمة جلست القرفصاء. في الأسبوع الثاني من هجرتي إلى ذاتي أقمت في كل مساحتها ورحت أقرأ لجوليا كريستيفا عن مباهج المنفى : " إن عصرنا الحاضر هو في حد ذاته منفى " و أن " الكتابة مستحيلة بدون بعض من المنفى .إن المنفى في ذاته هو مسبقا شكل من الانشقاق، لأنه يستدعي قلع جذور النفس من العائلة ، والوطن ، أو اللغة ."
III.
من المرخص لشخص قروي مثلي أن يعتقد أنه لأول مرة نعامل جميعا مثل أسنان المشط وتفرض هجمة " كرونا " على البشرية كلها عولمة الخوف المشترك والشامل. ربما يجب علينا أن ندرك الآن أن هذا الحدث غير القابل للحساب الرياضي هو الذي فاجأنا بمثل هذه الشراكة الرمادية التي يراهن عليها أن تجعلنا نختبر مدى جدارتنا أن نحيا معا أو نموت معا.
لقد أصبحت هذه الشراكة شكلا من العدالة السلبية التي فاجأت فسيفساء القوميات ، والديانات ، والحضارات ، والثقافات ، والأعراق ، واللغات والحدود.
مع كل يوم يمر عليَ ينتابني الاحساس بمحدودية القدرة الكلية التي يحاول الانسان أن ينسبها إلى ذكائه َ ، وجراء ذلك تبيَن لي أن مئات الجامعات ومراكز البحث العلمي والطبي ما تزال مكبلة و أسيرة الدهشة وما يشبه العجز الكلي أمام " كائن " أصغر من كوارك غير مرئي .
كل يوم يخرج مني فضاء العمر تحدق في وجهي خرافة الحدود التي كرستها وتكرسها الوطنيات المغلقة ضد براءة حلم التواصل الإنساني. حتى الآن لم تقدر كل هذه الحدود وخوذات العساكر ومخافر البوليس أن توقف غزوات كرونا الفقر والتخلف ولماذا تصفَح هذه الحواجز إذن ولماذا ترفع بقسوة في وجه الانسان؟
لاشكَ أن الشعراء الحقيقيون يطيرون آناء الليل وأطراف النهار . هم يطيرون كي يكتشفوا خوابي الرغبة حيث تختبئ الكنايات السرية التي تولد فيها القصائد. يطير الشعراء لأنهم يؤمنون أن الحركة الحرة الدائمة هي التي تحفظ توازن الروح من السقوط في مهبَ الفضاء اللانهائي. هم يسيرون حفاة كي يلمسوا أنين شعوب الأرض وأصداء الطيور الغريبة. في طريقهم إلى الينابيع يطلقون الغناء كي تفتح الدروب ذاكرة الفرح .
لماذا ينسينا هذا الحجر الطارئ حجرنا الروحي ؟
ها أنا الآن داخل جدران شقتي المطلة على كنايات بحر المانش أقرأ هذه الفقرة في كتاب أهداه لي الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار يوم التقيتا في لندن : " إن فكرة التعريف البسيط لما يؤسَس بالحدود هي عبث : أن ترسم حدودا هو أن تحدد إقليما على نحو دقيق، وأن تعيَنه ، وأن تسجل هوية ذلك الإقليم .." وهو أن تفصل كل الذي يوصل."
ربما ينبغي علينا أن ندرك أن هذا التعيين وأن هذا التسجيل للحدود يعنيان أن الهوية العازلة تعزل نفسها ثم تتوهَم أن كينونتها في خطر إذا فتح حدَ من حدودها . ربما أدركنا متأخرين أن الحدود ترفع عاليا فقط من أجل حجب هوية الذات وكأنها الآخر ؟
إنه حريَ بنا أن ندرك أن الخوف على خرق الحدود هو الذي يفرَخ الخوف رغم أن اجتيازها هو الذي يقرَبنا من فرصة إدراك التمايزات.
لقد انتبه كارل غوستاف يونغ مبكرا إلى هذه الحقيقة عندما كان يعبر الجزائر ليلتحق بسوسة التونسية في عام 1920م حيث قال لنفسه : " إنه بسفري إلى أفريقيا لإيجاد نقطة لتأمل النفس خارج المجال الأوروبي أكون قد أردت بلا وعي أن أجد ذلك الجزء من شخصيتي الذي أصبح غير مرئي تحت تأثير وضغط كوني أوربيا . إن هذا الجزء يقف بلاوعي بالتضاد مع نفسي" .
وأثناء تطواحاته في قصبة تونس ردَد بيتا نادرا استله من قصيدة للشاعر هولدرلين : " حيث يوجد الخطر هناك الخلاص أيضا."